سورة لقمان - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (لقمان)


        


{وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)} [لقمان: 31/ 12- 15].
المعنى: تالله لقد أعطينا لقمان الحكمة: وهي العلم النافع والعمل به، ومن مقتضى الحكمة: أن اشكر لله شكرا جميلا على نعمه ومواهبه، ومن يشكر اللّه فإنما يشكر لنفسه، أي يحقق النفع والثواب لنفسه، وينقذها من العذاب، ومن جحد نعمة اللّه عليه، فأشرك به غيره، وعصى أوامره فإنه يسيء إلى نفسه، ولا يضر أحدا سوى ذاته، فإن اللّه غني عن العباد وشكرهم، لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، محمود، أي مستحق الحمد بصفاته وذاته، فهذا أمر بالشكر.
ثم حذر لقمان ابنه من الشرك بالله، فاذكر أيها النبي حين أوصى لقمان ابنه بوصية أو موعظة، فقال له: يا ولدي، اعبد اللّه ولا تشرك به شيئا، فإن الشرك أعظم الظلم، لتعلّقه بأصل الاعتقاد فهو أعظم جرم، ولكونه وضع الشيء في غير موضعه، فهو ظلم محض لا موجب له ولا سبب لوجوده.
ثم تخلل بين وصايا لقمان وأثناء وعظه اعتراض بآيتين، موجهتين من اللّه تعالى، لا من كلام لقمان على الراجح، مفاد الآية الأولى: ولقد أمرنا الإنسان وألزمناه ببر والديه وطاعتهما وأداء حقوقهما، ولا سيما أمه، فإنها حملته في ضعف على ضعف، من الحمل إلى الطلق، إلى الولادة والنفاس، ثم الرضاع والفطام في مدة عامين، ثم تربيته ليلا ونهارا حتى صار كبيرا، وأمرناه بشكر اللّه على نعمته، وبشكر والديه، لأنهما سبب وجوده، ومصدر الإحسان إليه بعد اللّه تعالى.
وطاعة الوالدين لها حدود: وهي الأمر بالمعروف، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وعلى هذا، فإن ألحّ والداك في الطلب على أن تشرك بالله في عبادته غيره مما لا تعلم أنه شريك لله أصلا، فلا تقبل ذلك منهما، ولا تطعهما فيما أمراك به من الشرك أو العصيان.
ولكن صاحب والديك الكافرين في الدنيا مصاحبة كريمة بالمعروف، بأن تحسن إليهما بالمال والعلاج، والتودد في الكلام والمحبة والرفق، والوفاء بالعهد وإكرام صديقهما، ما دام ذلك في الدنيا، واتبع سبيل المؤمنين التائبين في دينك، ولا تتبع في كفرهما سبيلهما فيه، ثم إلي مرجعكم جميعا، فأجازيك أيها الولد على إيمانك، وأجازيهما على كفرهما إن كفرا، وأخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من خير أو شر.
نزلت هاتان الآيتان في شأن سعد بن أبي وقاص، وذلك أن أمه: وهي حمنة بنت أبي سفيان بن أمية، حلفت ألا تأكل ولا تشرب، حتى يفارق ابنها سعد دينه، ويرجع إلى دين آبائه وقومه، فلجّ سعد في الإسلام. فلما طال ذلك، ورأت أن سعدا لا يرجع عن دينه أكلت.
دلت الآيتان على الأمر ببر الوالدين، ثم حكم اللّه بأن ذلك لا يكون في الكفر والمعاصي لأن طاعة الأبوين لا تراعى في ارتكاب كبيرة، ولا في ترك فريضة عينية، وتلزم طاعتهما في المباحات. ويستحسن في ترك الطاعات الندب، ومنه المشاركة في الجهاد الكفائي، وإجابة الأم في الصلاة مع إمكان الإعادة، وذلك في حال خوف الهلاك عليها ونحوه مما يبيح قطع الصلاة.
وصايا لقمان الحكيم لابنه:
2- مجموعة أوامر ونواه أساسية:
جمع لقمان الحكيم في وصايا ابنه بين أصول العقيدة وأصول الشريعة والأخلاق، فأمره بأن يقدر قدرة اللّه تعالى، وأن يقيم الصلاة، ويأمر بالمعروف الذي أمر به الله، وينهى عن المنكر الذي منعه اللّه تعالى، ويصبر على المصاب، ويحذر التكبر، ويمشي متواضعا هينا لينا، خافضا صوته، يكلم الناس بلطف، ويبتعد عن غلظة القول ورفع الصوت أكثر من اللازم. وهذه آيات كريمة تحكي لنا هذه الأوامر والنواهي:


{يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان: 31/ 16- 19].
هذه بقية نصائح لقمان الحكيم لابنه، يقصد في النصيحة الأولى إعلام ابنه بقدر قدرة اللّه تعالى، فيا بني، إن الحسنة أو السيئة لو كانت تساوي وزن أصغر شيء، مثل وزن حبة الخردل، وكانت في أخفى مكان، كجوف صخرة، أو في أعلى مكان كالسماوات، أو في أسفل موضع كباطن الأرض، أحضرها اللّه في يوم الحساب، إن اللّه لطيف العلم، يصل علمه إلى كل شيء خفي، خبير ببواطن الأمور. واللطف والعلم: صفتان لائقتان بإظهار غرائب القدرة الإلهية.
ويا بني، الزم إقامة الصلاة: وهي العبادة المخلصة لوجه الله، وأدّها كاملة الأركان والشروط، وأمر بالمعروف: وهو الذي يقره الشرع الإلهي، وانه عن المنكر:
وهو الذي يمنعه الشرع الإلهي، واصبر على المصيبة والشدائد والأذى، إن ذلك المذكور: من عزائم الأمور، أي مما عزمه اللّه وأمر به. والصبر هنا للحض على تغيير المنكر وإن نالك ضرر. وهذا إشعار بأن مغيّر المنكر يؤذى أحيانا، وهذا على جهة الندب، لا على سبيل الإلزام، وهذه الأوامر تشمل عظائم الطاعات والفضائل أجمع.
ويا بني لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلموك تكبرا واحتقارا، أي بل كن متواضعا سهلا هينا لينا، منبسط الوجه، مستهل البشر. ولا تسر في الأرض مختالا متبخترا، جبارا عنيدا، فإن تلك المشية يبغضها اللّه تعالى، واللّه يعاقب كل مختال في مشيه، معجب في نفسه، فخور على غيره.
وامش مشيا متوسطا معتدلا، ليس بالبطيء المستضعف تزهدا، ولا بالسريع المفرط الذي يثب وثب الشيطان. والمشي مرحا: هو في غير شغل ولغير حاجة.
ومشاة المرح: هم الملازمون للفخر والخيلاء، فالمرح: مختال في مشيته.
ولا ترفع صوتك رفعا شديدا لا فائدة منه، وأخفضه، فإن شدة الصوت تؤذي آلة السمع، وتدل على الغرور، والاعتزاز المفرط بالنفس، وعدم الاكتراث بالغير. وإن اعتدال الصوت أوقر للمتكلم، وأقرب لاستيعاب الكلام ووعيه وفهمه. وإن رفع الصوت أكثر من اللازم يشبه صوت الحمير، وإن أقبح الأصوات لصوت الحمير، وذلك مما يبغضه اللّه تعالى، لأن أوله زفير وآخره شهيق. وأنكر الأصوات، أي أقبح وأوحش وراد بكلمة {لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} الصوت: اسم جنس، ولذلك جاء مفردا.
وفي ذلك دلالة على ذم رفع الصوت من غير حاجة، لأن التشبيه بصوت الحمار يقتضي غاية الذم. وأكد النبي صلّى اللّه عليه وسلم ذلك فيما رواه الجماعة عن أبي هريرة قال: «إذا سمعتم صياح الديكة، فاسألوا اللّه من فضله، وإذا سمعتم نهيق الحمير، فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنها رأت شيطانا».
ويلاحظ الحكمة في توجيه النصائح، فلما نهى لقمان ابنه عن الخلق الذميم، ومستنكر الأخلاق، رسم له طريق الخلق الكريم الذي ينبغي له أن يستعمله، من القصد في المشي: وهو ألا يشتط في السرعة، ولا يرائي في الإبطاء، ولا يمشي مختالا متبخترا، ولا يرفع الصوت أكثر من المعتاد، لأن غض الصوت أوقر للمتكلم، وأبسط لنفس السامع وفهمه.
إن دعوة الأنبياء إلى الإيمان بالله وبقدرته، وإلى عبادة اللّه وتوحيده، وإلى إقام الصلاة، والأمر بالفضيلة، ومحاربة الرذيلة، والتواضع واعتدال المشي، تلتقي مع مقتضى الحكمة التي يتوصل إليها الحكماء من خلال التجارب والمعاملة.
توبيخ الكافر على جحود النعمة:
إن كفر الكافرين عقدة صعبة، وكارثة خطيرة، ومدعاة للتوبيخ واللوم، لذا وبخ القرآن الكريم أهل الشرك على شركهم، مع مشاهدتهم دلائل التوحيد عيانا وحسا في عالم السموات والأرض، وتسخير ما فيها لمنافعهم، كما وبخهم على جحودهم نعم اللّه الكثيرة الظاهرة والباطنة، وكل ذلك لحمل المشركين على تصحيح اعتقادهم، وشكر ربهم، والتوجه نحو ما يصلح أمر آخرتهم ودنياهم، وهذه آيات كريمة تدل على الغضب الإلهي، على سوء أفعال المشركين، فقال اللّه تعالى:


{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21)} [لقمان: 31/ 20- 21].
هذه آية تنبيه على الصنعة الدالة على الصانع، وهو اللّه تعالى، وذلك أن تسخير هذه الأمور العظام كالشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والحيوان والنبات، إنما هو من اللّه المسخّر والمالك. لذا نبّه القرآن المشركين لهذا، قائلا لهم:
ألم تعلموا أيها المشركون دلائل التوحيد الناطقة بوحدانية اللّه تعالى وقدرته على كل شيء، وإنعامه عليكم، فهو سبحانه الذي ذلّل لكم جميع ما في السماوات من شمس وقمر ونجوم، تستضيئون بها في الليل والنهار، ويسّر لكم جميع خزائن الأرض، من معادن وأنهار وبحار، وأشجار وزروع، وثمار، ونحو ذلك من منافع الغذاء والشراب، وأكمل عليكم نعمه الظاهرة والباطنة، أي المحسوسة والمعقولة، ومنها إنزال الكتب وإرسال الرسل. والظاهرة أيضا: هي الصحة وحسن الخلقة والمال وغير ذلك.
والباطنة: المعتقدات الصحيحة من الإيمان ونحوه، والعقل أو الفكر الإنساني.
وبعض الناس كالنضر بن الحارث ونظرائه من زعماء الوثنية في مكة وغيرها، على الرغم من إثبات الألوهية بالخلق والإنعام، يجادلون في توحيد اللّه وصفاته وإرسال الرسل، بغير دليل معقول، ولا حجة صحيحة، وإنما حجتهم التقليد الأعمى، للآباء والأجداد، واتباع الهوى والشيطان، لأنهم كانوا ينكرون وحدانية اللّه تعالى، ويشركون الأصنام في الألوهية، وليس عندهم علم واضح من هدى أو كتاب يبين لهم معتقدهم.
وإذا قيل لهؤلاء المجادلين بالباطل في توحيد الله: اتبعوا ما أنزل اللّه على رسوله، من الشرائع والأحكام الصائبة، لم يجدوا حجة لتركها إلا اتباع الآباء الأقدمين، فيما اعتقدوه من دين، وإلا التقليد المحض بغير حجة، وهذا عجيب، أيتبعونهم بلا دليل؟
ولو كان اعتقادهم قائما على الهوى وتزيين الشيطان الذي يدعوهم إلى عذاب جهنم، أو عذاب النار المسعّرة، أي فكأن القائل منهم يقول: هم يتبعون دين آبائهم، ولو كان مصيرهم إلى السعير، واللّه يدعوهم إلى النجاة والثواب الجزيل والسعادة. وهذا استفهام على سبيل التعجب والإنكار، يتضمن التهكم عليهم، وتسفيه عقولهم، والسخرية من آرائهم وأفكارهم.
إن محبة اللّه لعباده تجعله ينبه على فساد حال الكفرة، وسوء الاعتقاد، وقبح الأفعال، فهم يسيرون في حياتهم ويعبدون أصنامهم بلا هدى قلب، ولا نور بصيرة يقيمون بها حجة، ولا يتّبعون بذلك كتابا من اللّه يبشر بأنه وحي، بل ذلك ادعاء منهم وتخرص، وإذا دعوا إلى اتباع وحي اللّه تعالى، رجعوا إلى التقليد المحض بغير حجة، فسلكوا طريق الآباء والأجداد.
والعقل والمصلحة يقضيان بضرورة تصحيح الطريق ومنهج الاعتقاد المنحرف، والعودة إلى جادة العقيدة الصحيحة، وإلى العمل بكلام اللّه تعالى في القرآن المجيد، حتى لا يفجأهم القدر والموت، ويصادمهم يوم القيامة بأهواله ورهباته.
حال المؤمن والكافر:
يتفاوت حال المؤمن والكافر تفاوتا كبيرا لا نظير له في الدنيا والآخرة. أما المؤمن في الدنيا: فهو ناعم البال، هادئ الضمير، مستقر النفس، يسعى في الحياة، ويفوض الأمر في النهاية إلى اللّه عز وجل، ويستمسك بما يوصله إلى الله، وأما في الآخرة فهو في نعيم دائم، وجنان تجري من تحتها الأنهار، ورضوان من اللّه أكبر، وأما الكافر في الدنيا: فهو قلق البال، مضطرب النفس، يعيش في كمد وحسرة، ولا يعمل لهدف، فإن أحسن العمل استفاد فقط من حسن عمله في دنياه، ولم يفده شيئا في آخرته، وأما في الآخرة: فهو في عذاب مستمر، ونيران يتلظى بها، وحميم يصب فوق رأسه، وسخط وغضب من اللّه عليه. وهذا ما يفهم من الآيات الآتية:

1 | 2 | 3 | 4